خواطر حول ديوان الشاعرة نعيمة عماشة :"يمام ورصاص"
"ذنبي الاول أني أمرأة...
لم اولد خرساءولم اولد مقعدة"
(خواطر حول ديوان نعيمة عماشة :"يمام ورصاص")
بقلم نبيل عودة
لفتت الشاعرة نعيمة عماشة * انتباهي لقدرة قصيدةالنثر على نقل الهاجس الفكري والفني، بكل رونقة الشعر وقوته، وبمستوى لا يقل اصالةعن الابداع الشعري الموزون التقليدي او الحديث، وأكثر ما لفت انتباهي لديها كانموقف اللبؤة المقاتلة ليس شعريا فقط ، وانما اجتماعيا أيضًا، ورغم بعض حالاتالانهزام واليأس... التي تعتريها وهي تقاتل وتصرخ في معركة رد الاعتبار لمكانةالمرأة ودورها، الا انها تبقى احد الاصوات القوية والهامة فنيا وموقفا. وربما هذاهو السبب في اختيارها عنوانا لديوانها الشعري:"يمام ورصاص" وليس بالأمر الغريبايضا، اننا نلتقي في ديوانها، ليس مع شاعرة ترسم بالكلمات فقط ، بل وشاعرة ترسمبالريشة أيضا، ومعظم لوحاتها نسائية ، وكأني بها تدرس المرأة بتفاصيلها، وبحالاتهاالنفسية المختلفة، لتوصل للقارىء ما لم توصله بالكلمات. او لتكمل بعض اللمساتالجمالية، التي لم تسعها الكلمات، وربما لتثبت لنا بالرؤية أيضا ، الى جانبالكلمة.. جمالية المرأة واكتمالها ، وتناقض ذلك مع الواقع الكئيب للمرأة في مجتمعنا .
في مقدمة ديوانها (الاهداء) تكتب نعيمة:
لكل يمامة بيضاء
تطير او تحاول الطيران
في وجهها الشمس وفي باطنها الدماء
لكل يمامة بيضاء
تبتلع رصاصة
وتواجه الاعصار
فيها جناح مكسور أو جناح
يوشك على الانكسار
لكل بندقية
.وتواصل صرختها وكأني بها ترثي واقعها، وواقع نسائنا العربيات :
لكل يمامة
ماتت في الطريق
وتموت تحت النعال
لكل يمامة
في الجوف لديها
قنبلة موقوتة
وتربطها
باصابع الديناميت
اسلاك واسلاك
.وتضيف ، بروح التمرد ، وروح يلامسها بعض اليأس وبعض الاحتجاج :
لكل يمامة
خرجت من ثوب الفضيلة
حين قرأت كتابا
واصبحت عارا
حين قالت لا.
وتواصل بتحد:
لم أعد يمامة فاعذروني
أفضل ان أكون الغراب
.وتنهي مقدمتها المثيرة، التي رأيت أهمية لتسجيلها ،لما تحمله من دلالة على روح الشاعرة وروح شعرها وحلمها الشعري :
أحاول يا سيدي عبد الحميد
لكن الرحلة
بين الكلام والصمت قيد من حديد
زالت دولة الحريم يا عبد الحميد
وذهب كلا
فصرت اجزاء من كل شرقي عنيد
اهداؤها يقول كل شيء من ناحية الموقف . فهي صرخة فيوجه المجتمع الذكوري، مجتمع جزأ مفهوم الانسان فأعطى للرجل بلا حساب، وحرم المرأةبلا حساب، حتى حولها الى شيء يمتلكه الرجل . ان مجتمعنا ممزق ومجزأ في كل مركباتهوتصرفاته، وبلوحات وصور شعرية ، تنجح نعيمة في ايقافنا امام حقيقة حياتنا،أحياناحقيقتنا المشوهة بين ما نقول ونصرح به، وما نرتكب من تجاوزات توازي الجريمة أوتتجاوزها ، ولكن لا يعاقب عليها القانون ، باعتبارها من " قيمنا الشرقية الأصيلة"التي نفاخر بها ، ولأن القانون ، في الدول الدمقراطية أيضا ،يتدخل عندما يرى أدلتهالحمراء فقط .. لون الدم .
نعيمة احيانًا غاضبة ، وأحيانا يائسة، واحيانًاساخرة .. حتى نكاد نشعر بسخريتها تنخر عظامنا، الرجل انسان ، اما المرأة فشيءيملكه ذلك الانسان،أي انها ما دون الانسان ... ان مأساة التجزيئية في مجتمعنا تطول ابسطالامور، ليس فقط الحق في ابداء الرأي، بل حتى الحق في اختيار الحذاء. ان مفاهيمالحرية مثلا هي مفاهيم ذكورية. فالحرية المنشودة هي حرية الرجل ووصوله للسيطرةوالقرار وحق المضاجعة المشروعة وغير المشروعة ، ويظل قيما على الشرف . والمرأةضرورية من أجل ان يصل الرجل الى مبتغاه، بعد ذلك يصبح دورها مخلا بالأمن الاجتماعيلمجتمع الذكور، الذي يكتفي باختيار نموذج نسائي لمقتضيات الزينة ، ولاظهار تقدميته،ربما يكون خطأ المرأة الكبير والاول قدومها للحياة، كونها امرأة هي الخطيئة الاولى،وكل تصرف لها يفسر باطار الخطيئة الاولى. ومع ذلك المجتمع الذكوري يحتاج المرأة ،هذا يذكرني بقول لعلي بن أبي طالب :"النساء شر كلهن وشر ما فيهن الحاجةاليهن". ولا ضرورة لتفسير نوعية الحاجة التي أبدعت هذا القول !!
وها هي نعيمة تصرخ ، فهل من يسمع صوتها ، صوت المرأة... وينصفها ؟:
لكل يمامة بيضاء
ترفض
هديل اليمام
وترفض الاعشاش
المعلقة
فوق اصابع السطان.
وما أكثر السلاطين عندنا.. القيمون علىالنساء ...قيمون على فروجهن فقط!!
وربما السعادة الاساسية لنعيمة انها تفهم قوةالكلمات،وتعرف بداية المأساة النسائية.. الكلمة والصوت والحركة .. فتقول في قصيدة "عفوك اوسع":
ذنبي الاول أني أمرأة
ثم ذنبي اني لم اولد خرساء
ولم اولد مقعدة
لا زلت اذكر هجوم البعض على شعرها المنثور ، وقدقرأت بعض " النقد " الذي حاول الغائها ، واليوم عندما أقرأ ديوانها ، حتى لو لم يكنشعرا وأدبا في مفاهيم البعض ، الا انه أرقى من كل الخربشات الموزنة والفارغة منالحس الانساني والمضمون الفكري . أقول هذا وأنا على قناعة أن نعيمة أبدعت أدباراقيا ومسؤولا . إن محاولة انزال الستار على شعرها، هي محاولة لاعادتها للزنزانةولسلبها حريتها، حرية الكلام، حرية التفكير، حرية الرسم، حرية الكتابة، حرية انتكون امرأة بقامة منتصبة.وحقها ان تكون نموذجا نسائيا طلائعيا.
لذلك نجدان الطابع الذي حكم " نقد " ديوانها من بعض الذكور المتثاقفين ،اراد بأحسن الاحوال تحويلها الى قطة مدللة، تكتب ما يرضي العنجهية الذكورية. والذينذهبوا لالغاء ابداعها الادبي تصرفوا بلا وعي، لخطورة التجزيئية في مجتمعنا. ربماحركتهم الغريزة الذكورية.. بحيث يبدو تصرفهم في منتهى البساطة "نقدا أدبيا " .. ولاأريد ان اقول في منتهى المنطق ، احتراما لما تبقى من قيمة لهذه الكلمة.
الديوان يمتد على مساحة (130) صفحة من الحجم الكبير،ويحوي ما يقارب الـ (50) قصيدة.تقول نعيمة :
ذنوبي كثيرة
وعفوك اوسع
ذنوبي كثيرة
يا ذاك الذي لا يذنب
كلمات واضحة ومباشرة، ولكنها مليئة بالحس المرهفوالسخرية، ولا تحتاج لمجهود للتفسير، مليئة بالحلم الشعري وبلا ضرورة للعروضوالبحور. ونعيمة بفهم لحقيقة الواقع الاجتماعي، تحاول ان لا تكون مجرد مقاتلة،تهاجم وتصرخ. بل انها تدرك قيمة الموقف الفكري ايضا. وضرورة الغاء التجزيئيةوالنفاق، وبناء علاقة انسانية فتقول في قصيدة "ضيعتني":
ضيعتني وقد لا أكون بعينيك حسناء
ضيعتني وقد لا أكون من الامراء
ضيعتني وقد لا اكون في العشرين
لكن...
ضيعت سيدي
امرأة تهواك!!
وفي قصيدة اخرى تعلن:
ان قلبي
بين يديك انتحر
وان
عيوني بكتك
وانك
زرعت في صدري حكم القدر
ديوان نعيمة سهل القراءة وممتع في نفس الوقت..ونلاحظ ان مبنى القصيدة لديها اصبح اكثر محكما من اعمالها السابقة المبكرة ، وهو منالنوع الذي اتفق على تسميته بالسهل الممتنع.
لا أعتبر كتابتي هذه كتابة نقدية او دراسة تحليلية،انما كتابة انطباعية، تأثرا انسانيا بابداع ادبي وفكري يستحق الحياة، وتستحق قضيتهأكثر من صوت مقاتل، واكثر من الاقتناع برفض العبودية، وأكثر من التصريحات باننا معحرية المرأة. فقضية حرية المراة تمس ليس قضايا المرأة تحديدا، انما كل واقعناالثقافي والتربوي والاقتصادي والعلمي والتنويري. نعم كلنا نرفض العبودية، كلنا مناجل حرية المرأة، كثيرون منا يثبتون هذا بكلامهم بشعاراتهم، بكتاباتهم، بحديثالصالونات. اما في بيوتهم وممالكهم الخاصة؟ هنا المشكلة، هنا نعود الى عقليةالغاب.
ديوان "يمام ورصاص" لنعيمة عماشة، ابنةالجولان المقيمة في عسفيا،المعانقة عناقا أزليا لكرمل حيفا هوابداع متميز ممتع، ويحمل قضية كبيرة، تخترق بها صمتنا وتستفزنا، وبالتأكيد تتجاوزمساحة اللغة الابداعية الجميلة ، وتتجاوز الديباجة اللغوية التي باتت ظاهرة أدبيةبلا مضمون في الكثير من المنتوجات التي أستصعب اعتبارها أدبا ..
نعيمة تمتعنا بلغة جميلة وفكر نقدي متقد ، لا يترددفي مكاشفتنا بحقيقتنا المشوهة . يمام ورصاص .. نساء ورجال .. خاضعات ومتسلطون .. حكاية لها آلاف البدايات ونهاية واحدة . ويجب ان نغير هذه النهاية .
*الشاعرة والفنانة التشكيلية نعيمةعماشة - جولانية المولد ، تعيش في مدينة الكرمل – عسفيا والدالية ، أصدرت عدةدواوين شعرية ،تعمل بحقل التربية والتعليم .
*****
نبيل عودة – كاتب ، ناقد واعلامي – الناصرة
nabiloudeh@gmail.com